فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية (المائدة: 45)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب الدِّيَاتِ

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏

- فيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَىُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَىٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَىٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَهَا‏:‏ ‏(‏وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا‏)‏‏.‏

وقال ابْنِ عُمَرَ‏:‏ إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ الَّتِى لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِى الدِّمَاءِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لَقِيتُ كَافِرًا، فَاقْتَتَلْنَا فَضَرَبَ يَدِى بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ مِنِّى بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ‏:‏ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا‏؟‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تَقْتُلْهُ، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَىَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا، آقْتُلُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِى قَالَها‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، لِلْمِقْدَادِ‏:‏ ‏(‏إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِى إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ، فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِى إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى القاتل هل له توبة لاختلافهم فى تأويل هذه الآية، فروى عن زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر أنه لا توبة له، وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمنًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏ غير منسوخة، وإنما نزلت بعد الآية البينة التى فى سورة الفرقان التى فيها توبة القاتل بستة أشهر، ونزلت آية الفرقان فى أهل الشرك، ونزلت آية النساء فى المؤمنين‏.‏

وروى سعيد بن مينا، عن ابن عمر أنه سأله رجل فقال‏:‏ إنى قتلت رجلا فهل لى من توبة‏؟‏ قال‏:‏ تزود من الماء البارد فإنك لا تدخلها أبدًا‏.‏

ذكره ابن المنذر، وروى عن على ابن أبى طالب وابن عباس، وابن عمر أن القاتل له توبة من طرق لا يحتج بها، وقاله جماعة من التابعين‏.‏

روى ذلك عن النخعى، ومجاهد، وابن سيرين، وأبى مجلز، وأبى صالح، وجماعة أهل السنة وفقهاء الأمصار على هذا القول راجين له التوبة؛ لأنه تعالى يقبل التوبة عن عباده، وإنما أراد أن يكون المسلم فى كل الأمور خائفًا راجيًا‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ حدثنى المقدمى، قال‏:‏ حدثنا المعتمر بن سليمان، عن سليمان ابن عبيد البارقى، قال‏:‏ حدثنى إسماعيل بن ثوبان قال‏:‏ جالست الناس فى المسجد الأكبر قبل الدار فسمعتهم يقولون‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏(‏ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏ الآية، قال المهاجرون والأنصار‏:‏ وجبت لمن فعل هذا النار‏.‏

حتى نزلت‏:‏ ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48، 116‏]‏‏.‏

واحتج أهل السنة أن القاتل فى مشيئة الله بحديث عبادة بن الصامت‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ عليهم فى بيعة العقبة‏:‏ أن من أصاب ذنبًا فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‏)‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك‏)‏ فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏ قال عكرمة‏:‏ نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة السبى والفاقة فحرم الله قتل الأطفال، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك ذنب عظيم بعد الكفر وجعل بعده فى العظم الزنا بحليلة الجار لعظم حق الجار ووكيد حرمته، وقد تقدم فى باب إثم الزنا قبل هذا‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏(‏أول ما ينظر فيه من أعمال الناس فى الدماء‏)‏ يعنى أول ما ينظر فيه من مظالم الناس لعظم القتل عند الله وشدته، وقد جاء فى حديث آخر أن أول ما ينظر فيه الصلاة‏.‏

وليس بمتعارض، ومعناه‏:‏ أول ما ينظر فيه فى خاصة نفس كل مؤمن من بعد ما ينتصف الناس بعضهم من بعض، ولا تبقى تباعة إلا لله تعالى بالصلاة‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم للمقداد‏:‏ ‏(‏فإنك بمنزلته قبل أن يقولها‏)‏ فقد فسره حديث ابن عباس الذى فى آخر الباب، ومعناه أنه يجوز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنًا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاك فى قتلك إياه أن ينزله الله من العمد والخطأ، كما هو مشكوكًا فى إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، وكذلك فسره المقداد كما ففهمه من النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كذلك كنت أنت بمكة تكتم إيمانك، وأنت مع قوم كفار فى جملتهم وعددهم مكثرًا ومحزبًا، فكذلك الذى لاذ بالشجرة وأظهر إيمانه لعله كان ممن يكتم إيمانه وهذا كله معناه النهى عن قتل من شهر بالإيمان‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قطع اليد وهو ممن يكتم إيمانه‏؟‏ قيل‏:‏ إنما دفع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك، كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه من يريد قتله، فإن اضطره الدفع عن نفسه إلى قتل الظالم دون قصد إلى إرادة قتله فهو هدر؛ فلذلك لم يقد صلى الله عليه وسلم من يد المقداد كما لم يقد قتيل أسامة؛ لأنه قتله متأولا، ويحتمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنه بمنزلتك قبل أن تقتلله‏)‏ وجهًا آخر‏:‏ أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنت مغفور لك بشهود بدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته‏)‏ يعنى أنك قاصد لقتله عمدًا إثم، كما كان هو قاصدًا لقتلك إثم، فأنت فى مثل حاله فى العصيان، لا أن أحدهما يكفر بقتله المسلم؛ لأن إتيان الكبائر لمن صح له عقد التوحيد لا يخرجه إلى الكفر، وإنما هى ذنوب موبقات، لله أن يغفرها لكل من لا يشرك به شيئًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏وأنت بمنزلته قبل أن يقولها‏)‏ فى إباحة الدم لا أنه كافر بذلك، فإنما قصد ردعه وزجره عن قتله؛ لأن الكافر إذا أسلم فقتله حرام‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلا بِحَقٍّ‏)‏ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ‏)‏‏.‏

- ابْنَ عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْكَبَائِرُ‏:‏ الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ‏:‏ وَقَتْلُ النَّفْسِ‏)‏‏.‏

وقال أَنَسَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ‏:‏ الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَةَ ‏(‏بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ‏:‏ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ رَجُلا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ‏:‏ فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصَارِىُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِى حَتَّى قَتَلْتُهُ، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ فَقَالَ لِى‏:‏ يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ‏؟‏ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَىَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُبَادَةَ‏:‏ بَايَعْنَا النبى صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَنْ لاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الأحْنَفِ عَنِ أَبَى بَكْرَةَ، قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكأنما قتل الناس جميعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ و‏)‏ فكأنما أحيا الناس جميعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فقالت طائفة‏:‏ معناه‏:‏ التغليظ لتعظيم الوزر فى قتل المؤمن، عن الحسن وقتادة ومجاهد، قال مجاهد‏:‏ إن قاتل النفس المحرمة يصير إلى النار كما يصير إلى النار لو قتل الناس جميعًا‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه أنه يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا يكون عليه غير قتلة واحدة لجميعهم‏.‏

عن زيد بن أسلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أى أن المؤمنين كلهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعًا‏.‏

عن الزجاج، وله‏:‏ ‏(‏ومن أحياها‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏، أى ومن لم يقتل أحدًا فقد سلم منه الناس جميعًا عن مجاهد‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ من وجب له القصاص، فعفا عن القاتل؛ أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا‏.‏

عن زيد بن أسلم والحسن‏.‏

واختار الطبرى فى قوله‏:‏ ‏(‏فكأنما قتل الناس جميعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ أنه فى تعظيم العقوبة وشدة الوعيد، واختار فى قوله‏:‏ ‏(‏فكأنما أحيا الناس جميعًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ القول الأول أنه من لم يقتل أحدًا فقد أحيا الناس بسلامتهم منه‏.‏

قال‏:‏ وهذا نظير قول الكافر‏:‏ أنا أحيى وأميت‏:‏ أى‏:‏ أترك من قدرت على قتله، وأميت أى‏:‏ أقتل من وجب عليه القتل، وإنما اختار ذلك؛ لأنه لا نفس يقوم قتلها فى عاجل الضرر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس فى عاجل النفع، فدل ذلك أن معنى الإحياء سلامة جميع النفوس، وفى هذه الأحاديث كلها تغليظ للقتل والنهى عنه‏.‏

وقوله فى حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏إلا كان على ابن آدم كفل من دمه‏)‏ يعنى‏:‏ إثمًا؛ لأنه أول من سنَّ القتل، فاستن به القاتلون بعده، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

وقوله فى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏لا ترجعوا بعدى كفارًا‏)‏ لتحريم الدماء، وحقوق الإسلام، وحرمة المؤمنين، وليس يريد الكفر الذى هو ضد الإيمان لما تقدم من إجماع أهل السنة أن المعاصى غير مخرجة من الإيمان‏.‏

وأما قتل أسامة الرجل؛ فإنه ظنه كافرًا، وجعل ما سمع منه من الشهادة تعوذًا من القتل، وأقل أحوال أسامة فى ذلك أن يكون قد أخطأ فى فعله؛ لأنه إنما قصد إلى قتل كافر عنده، ولم يكن عرف حكم النبى صلى الله عليه وسلم فيمن أظهر الشهادة بلسانه أنها تحقن دمه فسقط عنه القود، لأنه معذور بتأويله، وكذلك حكم كل من تأوله فأخطأ فى تأويله معذور فى ذلك‏.‏

وهو فى حكم من رمى من يجب له دمه، فأصاب من لا يجب له قتله، أنه لا قود عليه، وما لقى أسامة من النبى صلى الله عليه وسلم فى قتله هذا الرجل الذى ظنه كافرًا من اللوم والتوبيخ، حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم آلى على نفسه ألا يقاتل مسلمًا أبدًا؛ ولذلك قعد عن على ابن أبى طالب يوم الجمل وصفين، وقد تقدم فى كتاب الإيمان معنى قوله‏:‏ ‏(‏القاتل والمقتول فى النار‏)‏ وإنما خرج على الترهيب والتغليظ فى قتل المؤمن فجعلهما فى النار؛ لأنهما فعلا فى تقاتلهما ما يئول بهما إلى النار إن أنفذ الله سبحانه عليهما الوعيد والله تعالى فى وعيده بالخيار عند أهل السنة وسيأتى أيضًا فى كتاب الفتن بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى‏.‏

باب قَوْلِه‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ وباب سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ، وَالإقْرَارِ فِى الْحُدُودِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ‏:‏ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ من فَعَلَ بِكِ هَذَا‏؟‏ أَفُلانٌ، أَوْ فُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأُتِىَ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال قتادة فى هذه الآية‏:‏ إن أهل الجاهلية كان فيهم بغى وطاعة للشيطان، فكان الحى إذا كان فيهم عز ومنعة، فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين؛ قالوا‏:‏ لا نقتل به إلاحرا وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة؛ قالوا‏:‏ لا نقتل بها إلا رجلا، فنهاهم الله عن البغى، وأخبر أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏.‏

قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وقد قال قوم‏:‏ يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمى‏.‏

هذا قول الثورى، والكوفيين، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقال مالك والليث والشافعى وأبو ثور‏:‏ لا يقتل حر بعبد‏.‏

وهذا مذهب أبى بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت، قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وغلط الكوفيون فى التأويل؛ لأن معنى قوله‏:‏ ‏(‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ إنما هى النفس المكافئة للنفس قى حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حر عبدًا لما كان عليه حد القذف وكذلك الذمى‏.‏

والحدود فى الأحرار من الرجال والنساء واحدة، وحرمتهم واحدة، ويبين ذلك قوله تعالى فى نسق هذه الآية‏:‏ ‏(‏والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ فعلمنا أن العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأن الكافر لا يسمى بأنه متصدق ولا مكفَّر عنه، وكذلك العبد لا يجوز أن يتصدق بدمه ولا بجرحه؛ لأن ذلك إلى سيده، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ لما اتفق جميعهم أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس؛ كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى قوله باب سؤال القاتل حتى يقر‏.‏

ينبغى للإمام وللحاكم أن يشدد على أهل الجنايات ويتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، بخلاف إذا جاءوا تائبين مستفتين فإنه حينئذٍ يعرض عنهم ما لم يصرحوا، فكان لهم فى التأويل شبهة، فإذا بينوا ورفعوا الإشكال أقيمت عليهم الحدود، وإقرار اليهودى فى هذا الحديث يدل أنه لم تقم عليه البينة بالقتل، ولو قامت عليه ما احتاج صلى الله عليه وسلم أن يقرره حتى يقر، ولو لم يقر ما أقاد منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أنه بالشكوى والإشارة تجب المطالبة بالدم وغيره؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم طلب اليهودى بإشارة الجارية‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على إجازة وصية غير البالغ، وجواز دعواه بالدين وغيره على الناس‏.‏

باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا

- فيه‏:‏ أَنَسِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ‏:‏ فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، قَالَ‏:‏ فَجِىءَ بِهَا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا، قَالَ‏:‏ فُلانٌ قَتَلَكِ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِى الثَّالِثَةِ‏:‏ فُلانٌ قَتَلَكِ، فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب من أقاد بالحجر‏.‏

اختلف العلماء فى صفة القود؛ فقال مالك‏:‏ إنه يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتله بعصًا أو بحجر أو بالخنق أو بالتغريق؛ قتل بمثله‏.‏

وبه قال الشافعى‏:‏ إن طرحه فى النار عمدًا حتى مات؛ طرح فى النار حتى يموت‏.‏

وذكره الوقار فى ‏(‏مختصره‏)‏ عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وقال ابن الماجشون‏:‏ يقتل بالعصا وبالخنق وبالحجر ولا يقتل بالنار‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ بأى وجه قتل؛ فلا يقتل إلا بالسيف‏.‏

وهو قول النخعى والشعبى‏.‏

واحتجوا بحديث جابر‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا قود إلا بحديدة‏)‏‏.‏

وبقول ابن عباس حين بلغه أن عليا حرق قومًا بالنار، فقال‏:‏ ‏(‏لو كنت أنا لقتلتهم‏.‏

فإنى سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا يعذب بالنار إلا رب النار‏)‏‏.‏

وحجة القول الأول‏:‏ القرآن والسنة، فأما القرآن‏:‏ فقوله‏:‏ ‏(‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ وقوله‏:‏ ‏(‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ فجعل تعالى لولى المقتول أن يقتل بمثل ما قُتل به وليه‏.‏

وأما السنة‏:‏ فحديث أنس‏:‏ ‏(‏أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين، فرضَّ الرسول رأسه بين حجرين‏)‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏لا قود إلا بحديدة‏)‏ معناه إذا قتل بحديدة بدليل حديث أنس‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن خبر اليهودى مع الجارية لا حجة لكم فيه؛ لأن المرأة كانت حية، والقود لا يجب فى حى‏.‏

قيل‏:‏ إنما قتله النبى صلى الله عليه وسلم بعد موتها؛ لأن فى الحديث ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ فلان قتلك‏؟‏‏)‏ فدل أنها ماتت بعد ساعة؛ لأنها سيقت إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهى تجود بنفسها، فلم تقدر إلا على الإشارة على النطق، فلما ماتت استقاد لها النبى صلى الله عليه وسلم من اليهوى بالحجر فكان ذلك سنة لا يجوز خلافها‏.‏

واختلف قول مالك إن لم يمت من ضربة واحدة بعصًا أو حجر، فروى عنه ابن وهب أنه يضرب بالعصا حتى يموت، ولا يطول عليه، وروى عنه أشهب وابن نافع أنه يقتل بمثل ما قتل به، إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضربه ضربات فلا‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقول كثير من أهل العلم فى الرجل يخنق الرجل‏:‏ عليه القود، وخالف ذلك محمد بن الحسن فقال‏:‏ لو خنق رجل رجلا حتى مات، أو طرحه فى بئر فمات، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات لم يكن عليه قصاص، وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك قد خنق غير واحد فعليه القتل‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولما أقاد صلى الله عليه وسلم من اليهودى الذى رض رأس الجارية بالحجر، كان هذا فى معناه، فلا معنى لقوله‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ واحتج بهذا الحديث من قال فيمن يقول عند موته‏:‏ إن مت ففلان قتلنى؛ أنه يقبل منه، ويقتل الذى ذكر أنه قتل؛ هذا قول مالك والليث‏.‏

وخالفهم آخرون فقالوا‏:‏ لا يجوز أن يقتل أحد بمثل هذا، وإنما قتل النبى صلى الله عليه وسلم اليهودى الذى رض رأس الجارية، لأنه اعترف؛ فقتله بإقراره بما ادُّعِىَ عليه لا بالدعوى، وقد بين ذلك ما أجمعوا عليه، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل دعوى قتلا أو غيره، فسئل المدعى عليه عن ذلك فأومأ برأسه أى نعم؛ أنه لا يكون بذلك مقرا فإذا كان إيماء المدعى عليه برأسه لا يكون إقرارًا منه كان إيماء المدعى برأسه أحرى أن لا يوجب له حقا‏.‏

وقد أجمعوا أن رجلا لو ادعى فى حال موته أن له عند رجل درهمًا ثم مات أن ذلك غير مقبول منه، وأنه فى ذلك كهو فى دعواه فى حال الصحة، فالنظر على ذلك أن يكون دعواه الدم فى تلك الحال كدعواه ذلك فى حال الصحة‏.‏

وقال لهم أهل المقالة الأولى‏:‏ قول المقتول‏:‏ دمى عند فلان فى حال تخوفه الموت، وعند إخلاصه وتوبته إلى الله عند معاينة فراقه الدنيا؛ أقوى من قولكم فى إيجاب القسامة بوجود القتيل فقط فى محلة قوم وبه أثر؛ فيحلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، وألزموه جناية عمدٍ لم تثبت أيضًا ببينة ولا إقرار‏.‏

وقول المقتول‏:‏ هذا قتلنى، أقوى من قول الشافعى أيضًا أن الولى يقسم إذا كان قرب وليه وهو مقتول رجل معه سكين لجواز أن يكون غيره قتله‏.‏

والأوضاح جمع وضح، والوضح‏:‏ حلى من فضة‏.‏

عن صاحب العين‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ‏:‏ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِى، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ ناسخة لآية‏)‏ الحر بالحر والعبد بالعبد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ التى فى سورة البقرة، وجعلوا بين الأحرار والعبيد القصاص فى النفس خاصة، ولا يرون فيما دون ذلك بينهم قصاصًا‏.‏

وذهب ابن عباس إلى أن‏)‏ النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ غير ناسخة لآية البقرة، ولا مخالفة لها، ولكنها جميعًا محكمتان إلا أن ابن عباس رأى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ كالمفسرة للتى فى البقرة، فتأول أن قوله‏:‏ ‏(‏النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ إنما هى على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد، وأنهم يتكافئون فى دمائهم ذكورًا أو إناثًا، وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم دون الأحرار، يتكافئون فيما بينهم ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنه لا قصاص على الأحرار فى شىء من ذلك من نفس ولا من دونها؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحر بالحر والعبد بالعبد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ وهذا قول مالك وأهل الحجاز، وهو أولى من قول أهل العراق لوجهين‏:‏ أحدهما أن هذا تفسير ابن عباس‏.‏

الثانى‏:‏ أنه قول يوافق بعضه بعضًا ولا يختلف، والتنزيل إنما هو على نسق واحد‏:‏ أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن‏.‏

وقول أهل العراق لس بمتفق؛ لأنهم أخذوا بأول الآية وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ وتركوا ما وراء ذلك، وليس لأحد أن يفرق بين ما جمع الله، فيأخذ بعضه دون بعض إلا أن يفرق بين ذلك كتاب أو سنة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثيب الزانى‏)‏ لا يدخل فيه العبيد، وقد اتفق الكوفيون مع مالك مع أن من شروط الإحصان الموجب للرجم عندهم‏:‏ الحرية والبلوغ والإسلام؛ فإذا زنا العبد، وإن كان ذا زوجة فحده الجلد عندهم، فكما لم يدخل العبيد فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثيب الزانى‏)‏ فكذلك لم يدخل فى عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏المفارق لدينه التارك للجماعة‏)‏ فهو عام فى جميع الناس لإجماع الأمة أن بالردة يجب القتل على كل مسلم فارق دينه عبدًا كان أو حرا، فخص هذا بالإجماع‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى قوله‏:‏ ‏(‏المفارق لدينه‏)‏ يريد الخارج منه، فيحتمل أن يكون خروجه بترك الجماعة أو ببغى عليها؛ فيقاتل على ذلك، حتى يفئ إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافر بخروجه، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا وارتدادًا، والمروق‏:‏ الخروج، وسيأتى بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يمرقون من الدين‏)‏ فى آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ ‏(‏أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلا مِنْ بَنِى لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا أَنَّ يُقَادُ، أَهْلِ القَتِيل‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَتْ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى ‏(‏إِلَى‏)‏ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِى الْعَمْدِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏‏:‏ أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّىَ بِإِحْسَانٍ‏.‏

اختلف العلماء فى أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة‏:‏ ولى المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل‏.‏

روى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعى، والشافعى وأحمد، وإسحاق وأبو ثور‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ليس لولى المقتول عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا أن يرضى القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور عنه، وبه قال الثورى والكوفيون‏.‏

وحجة القول الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفى له من أخيه شىء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ أى ترك له دمه، ورضى منه بالدية‏)‏ فاتباع بالمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، أى فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف فى المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان‏)‏ ذلك تخفيف من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ ومعناه‏:‏ أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ فتفضل الله على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا رضى بها ولى الدم‏.‏

واحتجوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد‏)‏ وهذا نص قاطع فى أنه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم‏.‏

وأيضًا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن عليه فرضًا إحياء نفسه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وحجة أهل المقالة الثانية‏:‏ حديث أنس بن مالك فى قصة الرُّبيِّع حين كسرت ثنية المرأة؛ فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بكسر ثنيتها، فقال أنس بن النضر‏:‏ أتكسر ثنية الربيع‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أنس، كتاب الله القصاص‏)‏ فلما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ولم يخيرها بين القصاص وأخذ الدية؛ ثبت بذلك أن الذى يجب بكتاب الله وسنة رسوله فى العمد هو القصاص؛ إذ لو كان يجب للمجنى عليه الخيار بين القصاص والعفو لأعلمها النبى صلى الله عليه وسلم بما لها أن تختار من ذلك ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم رجل إليه فى شىء يجب له فيه أحد شيئين، فثبت عنده حقه أنه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب منهما فإن تعدى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله ثبت ما قلناه، ووجب أن يعطف عليه حديث أبى هريرة، ويجعل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فهو بالخيار بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية على الرضا من الجانى بغرم الدية حتى تتفق معانى الآثار‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إن عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنا رأيناهم قد أجمعوا أن الولى لو قال للقاتل‏:‏ قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك؛ أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها، ولم يؤخذ منه كرهًا، ويدفع إلى الولى، فكذلك الدية لا يجبر عليها، ولا تؤخذ منه كرهًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهو بخير النظرين‏)‏ حضُّ وندبٌ لأولياء القتيل أن ينظروا خير نظر، فإن كان القصاص خيرًا من أخذ الدية اقتصوا ولم يقبلوا الدية، وإن كان أخذ الدية أقرب إلى الألفة وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فعلت من غير جبر القاتل على أخذها منه، ولا يقتضى قوله ‏(‏بخير النظرين‏)‏ إكراه أحد الفريقين كما لا يقتضى قوله‏:‏ ‏(‏فاتباع بمعروف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ أخذ الدية من القاتل كرهًا‏.‏

وفى حديث أبى هريرة حجة للثورى والكوفيين، والشافعى وأحمد وإسحاق فى قولهم أنه يجوز العفو فى قتل الغيلة، وهو أن يغتال الإنسان، فيخدع بالشىء حتى يصير إلى موضع فيخفى فيه، فإذا صار إليه قتله‏.‏

وقال مالك‏:‏ الغيلة بمنزلة المحاربة، وليس لولاة الدم العفو فيها، وذلك إلى السلطان يقتل به القاتل‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ومن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين‏:‏ إن أحبوا العقل، وإن أحبوا القود‏)‏ وظاهر الكتاب يدل على أن ذلك للأولياء دون السلطان‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين‏)‏ ليدخلوا فى دين الله أفواجًا، فكان ذلك ساعة من نهار، فلما دخلوا عادت حرمتها المعظمة على سائر الأرض من تضعيف إثم منتهك الذنوب فيها، وزالت حرمتها الغير مشروعة من الله ولا من رسوله، من ترك من لجأ إليها ودخلها مستأمنًا، فارًا بدم أو بحربه لقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل له قتيل فهو بخير النظرين‏)‏ قاله فى قتيل خزاعة المقتول فى الحرم، فلما جعل الله القصاص فى قتيل الحرم، وعلمنا أنه يجوز الاقتصاص فى الحرم، ولو لم يجز ذلك لبينه النبى صلى الله عليه وسلم وبين أن الحرمة الباقية لمكة على ما كانت فى الجاهلية وهو تعظيم الذنب فيها عند الله على سائر الأرض‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أبغض الناس عند الله ملحد فى الحرم‏)‏ فهذا نص من النبى صلى الله عليه وسلم على المعنى الباقى للحرم، ويؤيد هذا قوله تعالى لما ذكر تحريم الأربعة الأشهر‏:‏ ‏(‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ تعظيمًا للظلم فيهن؛ إذ الظلم فى غيرهن محرم أيضًا فدل تخصيصهن بالنهى عن الظلم؛ على أنها مزية على غيرها فى إثم الظلم والقتل وغيره‏.‏

والساعة التى أحلت له لم يكن القتل فيها محرمًا لإدخاله إياهم فى شرائع الله، فكذلك كل قتيل يكون على شرائع الله لا يعظم فيه، ويقتص فيها من صاحبه، وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب الحج‏.‏

باب مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ

- ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاثَةٌ‏:‏ مُلْحِدٌ فِى الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِى الإسْلامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏أبغض الناس إلى الله‏:‏ ملحد‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ لا يجوز أن يكون هؤلاء أبغض إلى الله من أهل الكفر، وإنما معناه أبغض أهل الذنوب ممن هو من جملة المسلمين، وقد عظم الله الإلحاد فى الحرم فى كتابه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ فاشترط أليم العذاب لمن ألحد فى الحرم زائدًا على عذابه لو ألحد فى غير الحرم، وقيل‏:‏ كل ظالم فيه ملحد‏.‏

وقال عمر بن الخطاب‏:‏ احتكار الطعام بمكة إلحاد، وقال أهل اللغة‏:‏ والمعنى‏:‏ ومن يرد فيه إلحادًا بظلمٍ، والباء زائدة‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ مذهبنا أن الباء ليست بزائدة، والمعنى‏:‏ ومن أراد فيه بأن يلحد بظلم، ومعنى الإلحاد فى اللغة‏:‏ العدول عن القصد‏.‏

وأما المبتغى فى الإسلام سنة الجاهلية، فهو طلبهم بالذحول غير القاتل، وقتلهم كل من وجدوا من قومه ومنها‏:‏ انتهاك المحارم، واتباع الشهوات؛ لأنها كانت مباحةً فى الجاهلية فنسخها الله فى الإسلام وحرمها على المؤمنين، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُيِّد الفتك لا يفتك مؤمن‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ النياحة والطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رغب عن سنتى فليس منى‏)‏ وأما إثم الدم الحرام‏:‏ فقد عظمه الله فى غير موضع من كتابه، وعلى لسان رسوله حتى قال بعض الصحابة‏:‏ إن القاتل لا توبة له‏.‏

وقد ذكرنا مذاهب أهل العلم فى ذلك فى أول كتاب الحدود‏.‏

باب الْعَفْوِ فِى الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِى النَّاسِ‏:‏ يَا عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ، حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ أَبِى، أَبِى، فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ‏:‏ وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ‏.‏

هذا أصل مجمع عليه أن عفو الولى لا يكون إلا بعد الموت؛ إذ قد يمكن أن يبرأ فلا يموت، وأما عفو القتيل فإنه قبل الموت‏.‏

وزعم أهل الظاهر أن العفو لا يكون للقتيل، ولا يكون إلا للولى خاصة، وهذا خطأ؛ لأن الولى إنما جعل إليه القيام بما هو للقتيل من القيام عن نفسه من أجل ولايته له ومحله منه، فالقتيل أولى بذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما فهم العفو فى هذا الحديث من قول حذيفة‏:‏ غفر الله لكم‏.‏

وقد كان يتوجه الحكم إلى اليمان إلى أخذ الدية من عاقلة القاتلين، وإن لم يعرف من هم، فقد اختلف العلماء فى قتيل الزحام على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

باب قَوْلِه اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خطأ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏

باب إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ

- فيه‏:‏ أَنَسُ‏:‏ ‏(‏أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا‏:‏ مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا‏؟‏ أَفُلانٌ، أَفُلانٌ، حَتَّى سُمِّىَ الْيَهُودِىُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِىءَ بِالْيَهُودِىِّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ‏)‏‏.‏

وقال هَمَّامٌ‏:‏ بِحَجَرَيْنِ‏.‏

وترجم له‏:‏ ‏(‏باب قتل الرجل بالمرأة‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ حكم الله فى المؤمن يقتل الخطأ الدية وأجمع أهل العلم على القول به‏.‏

وقال الزجاج فى هذه الآية‏:‏ المعنى‏:‏ ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ البتة، وإلا خطأ استثناء ليس من الأول، ويسميه أهل العربية‏:‏ الاستثناء المنقطع والمعنى‏:‏ إلا أن يخطئ المؤمن النية، فكفارة خطئه تحرير رقبة مؤمنة فى ماله ودية مسلمة تؤديه عاقلته إلى أهله إلى أن يصدقوا، يقول‏:‏ إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه، ويتجاوزوا عن ديته، فتسقط عنه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وذكر أن هذه الآية نزلت فى عياش بن أبى ربيعة المخزومى، وكان قتل رجلا مسلمًا، ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك الرجل يعذبه بمكة مع أبى جهل، فخرج ذلك الرجل مهاجرًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة، فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثم جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأمره بعتق رقبة، ونزلت الآية‏.‏

عن مجاهد وعكرمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ بمعنى‏:‏ وإن كان هذا القتيل الذى قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن؛ فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه؛ لئلا يتقووا بها عليكم‏)‏ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، أى عهد وذمة، وليسوا أهل حرب لكم؛‏)‏ فدية مسلمة إلى أهله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، يعنى على عاقلته،‏)‏ وتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ كفارة لقتله ثم اختلف أهل التأويل فى صفة هذا القتيل الذى هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، هل هو مؤمن أو كافر‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هو كافر إلا أنه لزمت قاتله ديته؛ لأن له ولقومه عهدًا؛ فوجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذى بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، فلا تحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم‏.‏

عن ابن عباس والشعبى والنخعى والزهرى‏.‏

قالوا‏:‏ دية الذمى كدية المسلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل هو مؤمن‏.‏

روى ذلك عن النخعى، وجابر بن زيد، والحسن البصرى‏.‏

قالوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ قالوا‏:‏ وهو مؤمن‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وأولى القولين‏:‏ قول من قال‏:‏ عنى بذلك المقتول من أهل العهد؛ لأن الله تعالى أبهم ذلك فقال‏:‏ ‏(‏وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ولم يقل‏:‏ وهو مؤمن، كما قال فى القتيل من المؤمنين وأهل الحرب‏)‏ وهو مؤمن ‏(‏‏)‏ فمن لم يجد فصيام شهرين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، يعنى فمن لم يجد رقبة مؤمنة فصيام شهرين متتابعين، يعنى عن الرقبة خاصة‏.‏

عن مجاهد‏.‏

وقال مسروق‏:‏ صوم الشهرين عن الرقبة والدية‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وأولى القولين‏:‏ الصوم عن الرقبة دون الدية؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بإجماع، فلا يقضى صوم صائم عما لزم آخر فى ماله‏.‏‏)‏ توبة من الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏، يعنى رحمة من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها‏)‏ وكان الله عليما حكيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ يقول‏:‏ ولم يزل الله عليمًا بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه، حكيمًا بما يقضى فيهم ويأمر‏.‏

وقوله‏:‏ إذا أقر بالقتل مرة قتل به، فهو حجة على الكوفيين فى قولهم أنه لابد من إقراره مرتين فى القتل، كما لابد فى الزنا من إقراره أربع مرات‏.‏

وقولهم خلاف لهذا الحديث؛ لأنه لم يذكر فى الحديث أن اليهودى أقر أكثر من مرة واحدة، ولو كان فى إقراره حدا معلومًا لبين ذلك، وبهذا قال مالك والشافعى وقد تقدم فى باب سؤال الإمام المقر بالزنا، هل أحصنت، حكمُ بالزنا وبالقتل، ومذاهب العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الرجل يقتل بالمرأة وعلى هذا فقهاء الأمصار، وكذلك تقتل المرأة بالرجل وشذ الحسن البصرى، ورواية عن عطاء فقالا‏:‏ إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدوا نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل‏.‏

وروى مثله عن الشعبى عن على، وبه قال عثمان البتى‏.‏

وحجة الجماعة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل اليهودى بالمرأة، فدل على ثبات القصاص بين الرجال والنساء‏.‏

باب الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِى الْجِرَاحَاتِ

وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ‏:‏ يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فِى كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْجِرَاحِ‏.‏

وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَصْحَابِهِ، وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ الْقِصَاصُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ ‏(‏لَدَدْنَا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ، فَقَالَ‏:‏ لا تُلِدُّونِى، فَقُلْنَا‏:‏ كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ‏:‏ لا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا لُدَّ غَيْرَ الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ‏)‏‏.‏

اتفق أئمة الأمصار على أن الرجل يقتل بالمرأة‏.‏

والمرأة بالرجل إذا كان القتل عمدًا، حاشا الحسن البصرى وعطاء وما روى عن على‏.‏

وذهب مالك والثورى والشافعى وأكثر الفقهاء إلى أن القصاص بين الرجال والنساء فى الجراحات كما هو فى النفس‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس من الجراحات‏.‏

واحتج أصحابه بأن المساواة عندهم معتبرة فى النفس وغير معتبرة فى الأطراف، ألا ترى أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، والنفس الصحيحة تؤخذ بالمريضة وهذه نكتتهم وعليها يبنون الكلام، وكذلك لا يقطعون يد المرأة بيد الرجل ولا يد الحر بالعبد، وإن جرى القصاص بينهما فى النفس‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ولما أجمعوا أن نفسه بنفسها، وهى أكبر الأشياء، واختلفوا فيما دون ذلك كان ما اختلفوا فيه مردودًا إلى ما أجمعوا عليه؛ لأن الشىء إذا ما أبيح منه الكثير؛ كان القليل أولى‏.‏

قال المهلب‏:‏ حديث الربيع يبين أن القصاص بين الرجل والمرأة‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وإنما لم تؤخذ الصحيحة بالشلاء؛ لأن الشلاء ميتة والنفس الحية لا تؤخذ بالنفس الميتة، فسقط اعتراضهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما حديث اللدود فدليل على أنه يؤخذ الناس بالقصاص فى أقل من الجراحات، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقتص له ممن لده فى مرضه وآلمه، وهذا دون جراحه ولا قصد لأذى، وفيه قصاص الرجل من المرأة؛ لأن أكثر أهل البيت كانوا نساء، وفيه دليل على أخذ الجماعة بالواحد‏.‏

باب مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَان

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النبى صلى الله عليه وسلم، لَوِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِكَ أَحَدٌ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسُ أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ فِى بَيْتِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا‏.‏

اتفق أئمة الفتوى أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان، أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان لقبض أيدى الناس، وقد تأول الناس هذا الحديث أنه خرج على التغليظ والوعيد والزجر عن الاطلاع على عورات الناس، وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده أو أمته كما تقدم، ويجوز عند العلماء أن يأخذ حقه دون السلطان فى المال خاصة إذا جحده إياه، ولم يقم له بينة على حقه على ما جاء فى حديث هند مع أبى سفيان، وسيأتى بعد هذا‏.‏

باب إِذَا مَاتَ فِى الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ‏:‏ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ‏:‏ أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِىَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ‏:‏ أَىْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِى، أَبِى، قَالَتْ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ‏:‏ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ‏.‏

قَالَ عُرْوَةُ‏:‏ فَمَا زَالَتْ فِى حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ‏.‏

اختلف العلماء فيمن مات فى الزحام ولا يدرى من قتله، فقالت طائفة‏:‏ ديته فى بيت المال‏.‏

روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وبه قال إسحاق، وقالت طائفة‏:‏ دينه على من حضر‏.‏

هذا قول الحسن البصرى والزهرى، وفيها قول آخر وهو أن يقال لوليه‏:‏ ادع على من شئت، فإذا حلف على أحد بعينه أو جماعة يمكن أن يكونوا قاتليه فى الجمع حلف، واستحق على عواقلهم الدية فى ثلاث سنين‏.‏

هذا قول الشافعى‏.‏

وقال مالك‏:‏ دمه هدر، ووجه قول من قال أنه فى بيت المال، أنا قد أيقنا أن من مات من فعل قوم مسلمين ولم يتعين من قتله؛ فحسن أن يودى من بيت المال؛ لأن بيت مالهم كالعاقلة، ووجه قول من قال‏:‏ إن ديته على من حضر، أنا قد أيقنا أن من فعلهم مات فوجب أن لا يتعدى ذلك إلى غيرهم، وحديث هذا الباب أشبه بهذا القول من غيره؛ لأن حذيفة قال‏:‏ ‏(‏غفر الله لكم‏)‏ فدل أنه لم يغفر لهم إلا ما له مطالبتهم به ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏فلم يزل فى حذيفة منها بقية خير‏)‏ يريد أنها ظهرت عليه بركة ذلك العفو عنهم‏.‏

ووجه قول الشافعى أن الدماء والأموال لا تجب إلا بالطلب، فإذا ادعى أولياء المقتول على قوم وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقوا‏.‏

ووجه قول مالك أنه لما لم يعلم قاتله بعينه علم يقين إستحال أن يؤخذ أحد فيه بالظن، فيوجب أن يهدر دمه‏.‏

باب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خطأ فَلا دِيَةَ لَهُ

- فيه‏:‏ سَلَمَةَ بن الأكواع، قَالَ‏:‏ ‏(‏خَرَجْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ‏:‏ أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ مَنِ السَّائِقُ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ عَامِرٌ، فَقَالَ‏:‏ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلا أَمْتَعْتَنَا بِهِ، فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ‏:‏ حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ، وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَجِئْتُ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ يَا نَبِىَّ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِى وَأُمِّى، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ‏:‏ كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ اثْنَيْن، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَىُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

لم يذكر فى هذا صفة قتل عامر لنفسه خطأ كما ترجم، وجاء ذلك بينًا فى كتاب الأدب فى باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، قال‏:‏ ‏(‏فأتينا خيبر فحاصرناهم وكان سيف عامر قصيرًا فتناول به يهوديًا ليضربه، فرجع ذبابته فأصاب ركبته فمات منه‏.‏‏.‏‏)‏ فذكر الحديث، وقال فى آخره‏:‏ ‏(‏قل عربى نشأ بها مثله‏)‏ فى مكان قوله‏:‏ ‏(‏وأى قتل يزيده عليه‏)‏‏.‏

وفى رواية النسفى فى حديث هذا الباب‏:‏ ‏(‏وأى قتيل يزيد عليه‏)‏ وهو الصواب‏.‏

واختلف العلماء فى من قتل نفسه، فقالت طائفة‏:‏ لا تعقل العاقلة أحدًا أصاب نفسه بشىء عمدًا أو خطأ‏.‏

هذا قول ربيعة ومالك والثورى وأبى حنيفة والشافعى‏.‏

وقال الأوزاعى وأحمد وإسحاق‏:‏ ديته على عاقلته، فإن عاش فهى له وإن مات فهى لورثته، واحتجوا بما روى ‏(‏أن رجلاً كان يسوق حمارًا، فضربه بعصًا كانت معه، فأصاب عينه ففقأتها، فقضى عمر بديته على عاقلته، وقال‏:‏ أصابته يد من أيدى المسلمين‏)‏‏.‏

وحديث سلمة بن الكوع حجة للقول الأول؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوجب له دية على عاقلته ولا غيرها، ولو وجبت على العاقلة لبين ذلك؛ لأن هذا موضع يحتاج إلى بيان بل يشهد له صلى الله عليه وسلم أن له أجرين، وأيضًا فإن الدية إنما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجانى فإذا لم يجب على الجانى لأحدٍ شىء لم يحتج إلى التخفيف عنه‏.‏

وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونة للجانى فتؤدى إلى غيره، فمحال أن يؤدى عنه إليه، والنظر ممتنع أنه يجب للمرء على نفسه دين، ألا ترى أنه لو قطع يد نفسه عمدًا لم تجب فيها الدية فكذلك إذا قتل نفسه‏.‏

واحتج مالك فى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ولم يقل من قتل نفسه خطأ، وإنما جعل العقل فيما أصاب به إنسانًا إنسانًا، ولم يذكر ما أصاب به نفسه‏.‏

باب إِذَا عَضَّ رَجُلا فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ

- فيه‏:‏ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ‏:‏ أَنَّ رَجُلا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لا دِيَةَ لَكَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ خَرَجْتُ فِى غَزْوَةٍ فَعَضَّ رَجُلٌ، فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة‏:‏ من عض يد رجل فانتزع المعضوض يده من فىِّ العاض فقلع سنًا من أسنان العاض فلا ضمان عليه فى السن، روى ذلك عن أبى بكر الصديق وشريح، وهو قول الكوفيين والشافعى، قالوا‏:‏ ولو جرحه المعضوض فى موضع آخر فعليه ضمانه‏.‏

وقال ابن أبى ليلى ومالك‏:‏ هو ضامن لدية السن، وقال عثمان البتى‏:‏ إن كان انتزعها من ألم ووجع أصابه فلا شىء عليه، وإن انتزعها من غير ألم فعليه الدية‏.‏

واحتج الكوفيون والشافعى بهذا الحديث، وقالوا‏:‏ ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أيدع يده فى فيه فيعضه كما يعض الفحل‏؟‏ لا دية له‏)‏ وهذا لا يجوز خلافه لصحة مجيئه، وأنه لا شىء يخالفه مما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قالوا‏:‏ ولا يختلفون أن من شهر سلاحًا، وأومأ إلى قتله وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه دافعًا له عن نفسه؛ أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه بدفعه إياه عن نفسه كذلك لا يضمن سنه بدفعه إياه عن عضه‏.‏

واحتج أصحاب مالك فقالوا‏:‏ يحتمل أن يكون سقوط الثنية من شدة العض لا من نزع صاحب اليد؛ لأنه قال‏:‏ نزع يده فسقطت ثنية العاض، فلهذا لم يجب له شىء، وإن كان من فعل صاحب اليد فقد كان يمكنه أن يخلص يده من غير قلع ثنيته فلهذا وجب عليه ضمانها، ولم يرو مالك هذا الحديث، ولو رواه ما خالفه وهو من رواية أهل العراق‏.‏

بَاب ‏{‏السِّنَّ بِالسِّنِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏

- فيه أَنَس‏:‏ أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً، فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والسن بالسن‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ وأجمع العلماء أن هذه الآية فى العمد، فمن أصاب سن أحد عمدًا ففيه القصاص، على حديث أنس‏.‏

واختلف العلماء فى سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدًا، فقال مالك‏:‏ عظام الجسد كلها فيها القود إذا كسرت عمدًا‏:‏ الذراعان والعضدان، والساقان، والقدمان، والكعبان، والأصابع إلا ما كان مجوفًا مثل الفخذ وشبهه، كالمأمومة، والمنقلة، والهاشمة، والصلب، ففى ذلك الدية‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا قصاص فى عظم يكسر إلا السن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏السن بالسن‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ وهو قول الليث والشافعى‏.‏

واحتج الشافعى فقال‏:‏ إن دون العظم حائل من الجلد ولحم وعصب، فلو استيقنا أنا نكسر عظمة كما كسر عظمة لا يزيد عليه ولا ينقص فعلناه ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال منه ما دونه مما ذكرناه أنا لا نعرف قدره مما هو أقل أو أكثر مما نال غيره، وأيضًا فإنا لا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا فهو ممنوع‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ اتفقوا أنه لا قصاص فى عظم الرأس فكذلك سائر العظام‏.‏

والحجة لمالك حديث أنس‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى سن الربيع‏:‏ ‏(‏كتاب الله القصاص‏)‏ فلما جاز القصاص فى السن إذا كسرت، وهى عظم فكذلك سائر العظام، إلا عظمًا أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه، وأنه لا يقدر على الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يفعل ما يؤدى فى الأغلب إلى التلف إذا كان الجارح الأول لم يؤد فعله إلى التلف‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ ومن قال لا قصاص فى عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر غير جائز مع وجود الخبر‏.‏

واتفق جمهور الفقهاء على أن دية الأسنان فى الخطأ فى كل سن خمس من الإبل‏.‏

باب دِيَةِ الأصَابِعِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِى الْخِنْصَرَ وَالإبْهَامَ‏)‏‏.‏

ثبت فى كتاب الديات الذى كتبه النبى صلى الله عليه وسلم لآل عمرو بن حزم أنه قال‏:‏ ‏(‏فى اليد‏:‏ خمسون من الإبل، فى كل أصبع‏:‏ عشر من الإبل‏)‏‏.‏

وأجمع العلماء على أن فى اليد نصف الدية، وأصابع اليد والرجل سواء، وعلى هذا أئمة الفتوى، ولا فضل لبعض الأصابع عندهم على بعض‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روينا ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت‏.‏

وجاءت رواية شاذة عن عمر بن الخطاب، وعروة بن الزبير بتفضيل بعض الأصابع على بعض‏.‏

روى الثورى وحماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب‏:‏ ‏(‏أن عمر جعل فى الإبهام خمسة عشر وفى البنصر تسعًا، وفى الخنصر ستًا، وفى السبابة والوسطى عشرًا عشرًا، حتى وجد فى كتاب الديات عند آل عمرو بن حزم‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الأصابع كلها سواء، فأخذ به وترك قوله الأول‏)‏‏.‏

ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال‏:‏ ‏(‏قضى عمر فى الإبهام بثلاث عشرة، وفى التى تليها بثنتى عشرة، وفى الوسطى بعشرة، وفى التى تليها بتسع، وفى الخنصر بست‏)‏‏.‏

وروى معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال‏:‏ ‏(‏إذا قطعت الإبهام والتى تليها، ففيها نصف دية اليد، وإذا قطعت إحداهما، ففيها عشر من الإبل‏)‏‏.‏

ولم يلتفت أحد من الفقهاء إلى هذين القولين لما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏هذه وهذه سواء، يعنى الخنصر والإبهام‏)‏ وحديث عمرو بن حزم‏:‏ ‏(‏إن فى كل أصبع عشرًا من الإبل‏)‏‏.‏

وذكر ابن المنذر عن الشعبى قال‏:‏ كنت جالسًا مع شريح؛ إذا أتاه رجل فقال‏:‏ أخبرنى عن دية الأصابع، فقال‏:‏ فى كل أصبع عشرًا من الإبل‏.‏

قال‏:‏ سبحان الله، أسواء هى‏؟‏ يعنى الإبهام والخنصر، قال‏:‏ ويحك إن السنة منعت قياسكم، اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالسنن، سواء يداك وأذناك تغطيهما العمامة والقلنسوة، وفيها نصف الدية، وفى اليد نصف الدية‏.‏

باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ، هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ‏؟‏

وَقَالَ مُطَرِّفٌ، عَنِ الشَّعْبِىِّ فِى رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِىٌّ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، وَقَالا‏:‏ أَخْطَأْنَا، فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَخذَهُمَا بِدِيَةِ الأوَّلِ، وَقَالَ‏:‏ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ غُلامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ‏.‏

- وفيه‏:‏ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ‏:‏ إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ‏.‏

وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ، وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ، وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلاثَةِ أَسْوَاطٍ، وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ‏:‏ ‏(‏لَدَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لا تَلُدُّونِى، قَالَ‏:‏ فَقُلْنَا‏:‏ كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ‏:‏ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِى قَالَ‏:‏ قُلْنَا‏:‏ كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ‏)‏‏.‏

ذهب جمهور العلماء إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا به كلهم على نحو ما فعل عمر بن الخطاب ورى مثله عن على بن أبى طالب والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين‏:‏ سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعى والشعبى وجماعة أئمة الأمصار‏.‏

وفيها قول آخر‏:‏ روى عن عبد الله والزبير ومعاذ بن جبل‏:‏ أن لولى المقتول أن يقتل واحدًا من الجماعة، ويأخذ بقية الدية من الباقين، مثل أن يقتله عشرة أنفس، فله أن يقتل واحدًا منهم ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية‏.‏

وبه قال ابن سيرين والزهرى‏.‏

وقال أهل الظاهر‏:‏ لا قود على واحد منهم أصلا وعليهم الدية‏.‏

وهذا خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، وحجة الجماعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏ فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدًا أو جماعة، لوقوع اسم القتلة عليهم، ولأن الله تعالى جعل الحجة لولى المقتول عليهم، وعلى مثل هذا يدل حديث عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أن يلد كل من فى البيت لشهودهم للدده الذى نهاهم عنه وما ذاق من الألم واشتراكهم فى ذلك، وهو حجة فى قصاص الواحد من الجماعة، ولو لم تقتل الجماعة بالواحد لأدى ذلك إلى رفع الحياة فى القصاص الذى جعله الله حياة ولم يشأ أحد أن يقتل أحدًا ثم لا يقتل به إلا دعا من يقتله معه لسقط عنه القتل، وأيضًا فإن النفس لا تتبعض فى الإتلاف، بدليل أنه لا يقال‏:‏ قاتل بعض نفس؛ لأن كل واحد قد حصل من جهته فعل ما يتعلق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعض لامتناع أن يكون بعض الروح خرج بفعل أحدهم، وبعضها بفعل الباقين، فكان كل واحد منهم قاتل نفس، ومثل هذا لو أن جماعة دفعوا حجرًا، لكان كل واحد منهم دافعًا له؛ لأن الحجر لا يتبعض كما أن النفس لا تتبعض‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنما قال لكل واحد منهم قاتل نفس كما يقال فى الجماعة‏:‏ أكلت الرغيف، وليس كل واحد منهم أكل الرغيف كله‏.‏

قيل‏:‏ إنما كان هذا؛ لأن الرغيف يتبعض، فصح أن يقال لكل واحد منهم‏:‏ أكل بعض الرغيف، ولما لم يصح التبعيض فى النفس لم يصح أن يقال قاتل بعض نفس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ الألف واللام للجنس فتقديره‏:‏ الأنفس بالأنفس، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏الحر بالحر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ تقديره‏:‏ الأحرار بالأحرار‏.‏

فلا فرق بين جماعة قتلوا واحدًا أو جماعة، وأما القود من اللطمة وشبهها، فذكر البخارى عن أبى بكر الصديق وعمر وعلى وابن الزبير أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها، وقد روى عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبى وجماعة من أهل الحديث، وقال الليث‏:‏ إن كانت اللطمة فى العين فلا قصاص فيها للخوف على العين ويعاقبه السلطان، وإن كانت على الخد ففيها القود‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا قصاص فى اللطمة‏.‏

فروى هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى‏.‏

واحتج مالك فى ذلك، وقال‏:‏ ليس لطمة المريض والضعيف مثل لطمة القوى، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل له الحال والهيئة، وإنما فى ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة‏.‏

واختلفوا فى القود من ضرب السوط، فقال الليث‏:‏ يقاد من الضرب بالسوط ويزاد عليه للتعدى‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ يقاد من السوط، ولا يقاد منه عند الكوفيين، والشافعى إلا أن يجرح، قال الشافعى‏:‏ إن جرح السوط ففيه حكومة‏.‏

وحديث لد النبى صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود فى كل ألم، وإن لم يكن جرح ولا قصد لأذى، بسوط كان الألم أو بيد أو غيره، وقد تقدم فى كتاب الأحكام مذاهب العلماء فى الشاهد إذا تعمد الشهادة بالزور، هل يلزمه الضمان، وقد تقدم تفسير قتل الغيلة، فى باب من قتل قتيلا فهو بخير النظرين‏.‏

باب الْقَسَامَةِ

وَقَالَ الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ‏.‏

وقال ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ‏:‏ لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِىِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وَكَانَ أَمَّرَهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، فِى قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ، إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلا فَلا تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ ‏(‏زَعَمَ أن رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُ‏:‏ سَهْلُ بْنُ أَبِى حَثْمَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلا، وَقَالُوا لِلَّذِى وُجِدَ فِيهِمْ‏:‏ قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا‏:‏ مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلا، فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلا، فَقَالَ‏:‏ الْكُبْرَ، الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا‏:‏ مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ‏:‏ فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا‏:‏ لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ أَبُو قِلابَةَ ‏(‏أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، مَا تَقُولُونَ فِى الْقَسَامَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَقُولُ‏:‏ الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الْخُلَفَاءُ، قَالَ لِى‏:‏ مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلابَةَ‏؟‏ وَنَصَبَنِى لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الأجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ، وَلَمْ يَرَوْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ فَوَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا قَطُّ إِلا فِى إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ‏:‏ رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ، فَقَالَ الْقَوْمُ‏:‏ أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِى السَّرَقِ، وَسَمَرَ الأعْيُنَ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ‏:‏ أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِى أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأرْضَ، فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ‏:‏ أَفَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِى إِبِلِهِ، فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ فِى آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا فَجِىءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِى الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا، قُلْتُ‏:‏ وَأَىُّ شَىْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، وَقَتَلُوا، وَسَرَقُوا‏؟‏ فَقَالَ عَنْبَسَةُ ابْنُ سَعِيدٍ‏:‏ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، فَقُلْتُ‏:‏ أَتَرُدُّ عَلَىَّ حَدِيثِى يَا عَنْبَسَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَاللَّهِ لا يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ كَانَ فِى هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا، فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِى الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ بِمَنْ تَظُنُّونَ، أَوْ مَنْ تَرَوْنَ قَتَلَهُ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ‏:‏ آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ، ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ، قَالَ‏:‏ أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ، فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَّ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ، وَقَالُوا قَتَلَ‏:‏ صَاحِبَنَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ، فَقَالَ‏:‏ يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ، قَالَ‏:‏ فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ، فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلا آخَرَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِى الْمَقْتُولِ، فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا‏:‏ فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ، فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ، وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ، فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِى الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلا، ثُمَّ مَاتَ، قُلْتُ‏:‏ وَقَدْ كَانَ عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، أَقَادَ رَجُلا بِالْقَسَامَةِ، ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الحكم بالقسامة، فقالت طائفة‏:‏ القسامة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ فيها المدعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا وبرءوا، هذا قول أهل المدينة‏:‏ يحيى بن سعيد، وأبى الزناد، وربيعة، والليث، ومالك، والشافعى، وأحمد وأبى ثور‏.‏

واحتجوا فى ذلك بما رواه البخارى فى كتاب الجزية والموادعة عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة قال‏:‏ ‏(‏انطلق عبد الله بن سهل ومُحيِّصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر، وهى يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبى صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال‏:‏ كبر، كبر، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلما فقال‏:‏ تحلفون وتستحقون قاتلكم، أو صاحبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ كيف نحلف ولم نشهد ولم نر‏؟‏ قال‏:‏ فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا‏؟‏ قالوا‏:‏ كيف نأخذ أيمان قوم كفار‏؟‏ فعقله النبى صلى الله عليه وسلم من عنده‏)‏ وقال حماد بن زيد‏:‏ عن يحيى بن سعيد مثله‏.‏

فثبت فى هذا الحديث تبدئة المدعين للدم باليمين‏.‏

وذهب طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويذرون، روى هذا عن عمر ابن الخطاب، وعن الشعبى، والنخعى، وبه قال الثورى والكوفيون، واحتجوا بحديث سعيد ابن عبيد، عن بشير بن يسار أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار‏:‏ ‏(‏تاتون بالبينة على من قتله، قالوا‏:‏ ما لنا بينة، قال‏:‏ فيحلفون لكم، قالوا‏:‏ ما نرضى بأيمان يهود‏)‏ فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود‏.‏

واحتجوا أيضًا بما رواه ابن جريح عن ابن أبى مليكة، عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏‏.‏

وفيها قول ثالت‏:‏ وهو التوقف عن الحكم بالقسامة، روى هذا عن سالم بن عبد الله، وأبى قلابة، وعمر بن عبد العزيز، والحكم بن عتيبة‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا‏:‏ حديث سعيد بن عبيد فى تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث؛ لأن جماعة من أئمة الحديث أسندوا حديث بشير بن يسار عن سهل‏:‏ ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم بدأ المدعين‏)‏‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ أسنده عن يحيى بن سعيد شعبة، وسفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفى، وحماد بن زيد، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل فهؤلاء ستة، وأرسله مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن بشير بن يسار، ولم يذكر سهل بن أبى حثمة‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ الذى أذهب إليه فى القسامة، حديث يحيى بن سعيد، عن بشير ابن يسار، فقد وصله عنه حفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد‏.‏

قال الأصيلى‏:‏ فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة مع أن سعيد بن عبيد قال فى حديثه‏:‏ ‏(‏فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إبل الصدقة‏)‏ والصدقة لا تعطى فى الديات، ولا يصالح بها عن غير أهلها‏.‏

قال ابن القصار والمهلب‏:‏ وقد يجوز الجمع بين حديث سعيد بن عبيد، ويحيى بن سعيد، فيحتمل أن يقول النبى صلى الله عليه وسلم للأنصار أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه بعد علمه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار قد نكلوا عن اليمين؛ لأنهم لم يعينوا أحدًا من اليهود فيقسمون عليه، والقسامة لا تكون إلا على معين، فلما علم نكولهم رد اليمين، وفى حديث يحيى بن سعيد حين نكل محيصة وحويصة وعبد الرحمن، فقالوا لهم‏:‏ فيبرئكم يهود بعد أن قال لهم تحلفون خمسين يمينًا، وتستحقون دم صاحبكم‏.‏

وقد روى ابن جريج، عن عطاء، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏البينة على المدعى واليمين على من أنكر إلا فى القسامة‏)‏ فتبين أن اليمين فى القسامة لا يكون فى جهة المدعى عليه، وقد احتج مالك فى الموطأ لهذه المقالة بما فيه الكفاية، فقال‏:‏ إنما فرق بين القسامة فى الدم والأيمان فى الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه فى حقه، وأن الرجل إذا قتل الرجل لم يقتله فى جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة، فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة، وعمل فيها كما يعمل فى الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها‏.‏

ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن الدم وليحذر القاتل أن يؤخذ فى مثل ذلك بقول المقتول، وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا، والذى سمعت ممن أرضى، والذى اجتمعت عليه الأئمة فىالقديم والحديث أن يبدأ المدعون‏.‏

فإن قالوا‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم إنما قال‏:‏ ‏(‏أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ على وجه الاستعظام لذلك والإنكسار عليهم والتقرير، لا على وجه الاستفهام لهم‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لا يجوز أن يزيد الإنكار عليهم أصلا وذلك أن القوم لم يطلبوا اليمين فينكر ذلك عليهم‏.‏

وإنما ادعّوا الدم فبدأهم وقال لهم صلى الله عليه وسلم ‏(‏أتحلفون‏)‏ فعلم أنه شرع لهم اليمين؛ وعلق استحقاق الدم بها، فإنما كان يكون منكرًا عليهم لو بدءوا وقالوا‏:‏ نحن نحلف‏.‏

وأما الذين أبطلوا الحكم بالقسامة فإنهم ردوها بآرائهم لخلافها عندهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه‏)‏ وهو خص القسامة بتبدية المدعين الأيمان وسنه لأمته، وقد كانت القسامة فى الجاهلية خمسين يمينًا على الدماء، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة بخلاف الأموال التى سن فيها يمينًا واحدة، والأصول لا يرد بعضها ببعض، ولا يقاس بعضها على بعض بل يوضع كل واحد منهما موضعه، كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقراض مع الإجارات وعلى المسلمين التسليم فى كل ما سن لهم‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فإن قيل‏:‏ كيف يحلف الأولياء وهم غيب عن موضع القتل‏؟‏ قيل‏:‏ اليمين تكون مرة على وجه اليقين وتارة على وجه الاستدلال، كالشهادة تكون بيقين وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة، وأن هذه زوجة فلان، وهذا باستدلال كما يدعى الوارث لابنه دينًا على رجل من حساب أبيه، فيحلف كما يحلف على يقين، وذلك عل ما ثبت عنده بأخبار من يصدقه، وليس أحد من العلماء يجيز لأحد أن يحلف على ما لا يعلم أو يشهد على ما لم يعلم، ولكنه يحلف على ما لم يحضر إذا صح عنده وعلمه بما يقع العلم بمثله‏.‏

وقيل لابن المسيب‏:‏ أعجب من القسامة؛ يأتى الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول ويقسم‏.‏

قال‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة فى قتيل خيبر، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها‏.‏

وروى عن معمر عن الزهرى قال‏:‏ دعانى عمر بن عبد العزيز فقال‏:‏ إنى أريد أن أدع القسامة، نأتى برجل من أرض كذا، وآخر من أرض كذا فيحلفون، فقلت له‏:‏ ليس لك ذلك، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، إن تركتها أوشك رجل أن يقتل عندنا فيبطل دمه، وإن للناس فى القسامة حياة‏.‏

وأما قول ابن أبى مليكة‏:‏ إن معاوية لم يقد بالقسامة فلا حجة فيه مع خلاف السنة له، والخلفاء الراشدين الذين أقادوا بها، وقد صح عن معاوية أنه أقاد بالقسامة، وذكر ذلك أبو الزناد فى احتجاجه على أهل العراق، قال‏:‏ وقال لى خارجة بن زيد بن ثلبت‏:‏ نحن والله قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون إنى لأرى يومئذ ألف رجل أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان فى ذلك‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ والعجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته فى العلم، كيف لم يعارض أبا قلابة فى قوله وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين قال المؤلف‏:‏ وقد روى حماد بن سلمة، عن عبد الله بن أبى مليكة أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة فى إمارته على المدينة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وما اعترض به أبو قلابة من حديث العرنيين، لا اعتراض فيه على القسامة بوجه من الوجوه؛ لجواز قيام البينة والدلائل التى لا دافع لها على تحقيق الجناية على العرنيين، وليس هذا من طريق القسامة فى شىء؛ لأن القسامة إنما تكون فى الدعاوى، والاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأمر العرنيين كان بين ظهرانى الناس وممكن فيه الشهادة؛ لأن العرنيين كشفوا وجوههم لقطع السبيل، والخروج على المسلمين بالقتل واستياق الإبل، فقامت عليهم الشواهد البينة فأمرهم غير أمر من ادعى عليه بالقتل، ولا شاهد يقوم عليه، وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يُعارض به ما تقدم من السنة فى القسامة، وليس رأى أبى قلابة حجة على جماعة التابعين ولا ترد بمثله السنن، وكذلك محو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا؛ لا حجة فيه على إبطال القسامة؛ وإنما ذكر البخارى هذا كله بلا إسناد، وصدر به كتاب القسامة؛ لأن مذهبه تضعيف القسامة، ويدل على ذلك أنه أتى بحديث القسامة فى غير موضعه، وذكره فى كتاب الجزية والموادعة، واختلفوا فى وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، روى هذا عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهرى وربيعة وأبى الزناد، وبه قال مالك والليث وأحمد وأبو ثور‏.‏

واحتجوا بحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار أنه قال صلى الله عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏تحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ وهذا يوجب القود‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا قود بالقسامة وإنما توجب الدية، روى هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وهو قول النخعى والحسن، وإليه ذهب الثورى والكوفيون والشافعى وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك، عن أبى ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبى حثمة وهو قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏إما إن تدوا صاحبكم أوتأذنوا بحرب من الله ورسوله‏)‏ وهذا يدل على الدية لا على القود‏.‏

وقالوا‏:‏ ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار‏:‏ ‏(‏تستحقون دم صاحبكم‏)‏ يعنى به‏:‏ دية دم قتيلكم؛ لأن اليهود ليس بصاحب لهم، فإذا جاز أن يضمروا فيه؛ جاز أن يضمر فيه دية دم صاحبكم‏.‏

فكان من حجة أهل المقالة الأولى عليهم، أن قالوا‏:‏ إن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إما أن تدوا صاحبكم‏)‏ معارض لقوله‏:‏ ‏(‏تستحقون دم صاحبكم‏)‏ فلما تعارض اللفظان وجب طلب الدليل على أى المعنيين أولى بالصواب، فوجدنا قوله‏:‏ ‏(‏إما أن تدوا صاحبكم‏)‏ انفرد به أبو ليلى فى حديثه‏.‏

وقد قال أهل الحديث‏:‏ إن أبا ليلى لم يسمع هذا الحديث من سهل بن أبى حثمة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مجهول لم يرو عنه غير مالك، ولم يرو عنه مالك غير هذا الحديث‏.‏

وقد اتفق جماعة من الحفاظ على يحيى بن سعيد فى هذا الحديث وقالوا فيه‏:‏ ‏(‏تستحقون دم قاتلكم‏)‏، يعنى يسلم إليكم القتيل؛ لأنه لم يقل‏:‏ وتستحقون دية دم صاحبكم، والدليل على ذلك أنهم كانوا ادعوا قتل عمدٍ لا قتل خطأ، والذى يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك ولى القتل‏.‏

وروى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبى حثمة، ورافع بن خديج أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للأنصار‏:‏ ‏(‏يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته‏)‏ وهذه حجة قاطعة، وهذا الحديث بين أن قوله‏:‏ ‏(‏دم صاحبكم‏)‏ معناه‏:‏ القاتل؛ لأنه صاحبهم الذى قتل وليهم، وقد يصح أن يقولوا‏:‏ هذا صاحبنا الذى ادعينا عليه أنه قتل ولينا، ويجوز أن يكون معناه وتستحقون دم قاتل صاحبكم؛ لأنه من ادعى إثبات شىء على صفة وحققه بيمينه فإن الذى يجب له هو الشىء الذى حققه بيمينه على صفته، فلو ادعى إتلاف عبد أو جارية أوثوب، وحلف عليه بعد نكول المدعى عليه حكم له بما ادعاه على صفته، ولم يجب له سواه، والدليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم فى القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏ فأخبر تعالى أن القصاص هو الذى يحيى النفوس؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل انزجر عن القتل، وكفّ عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية، والناس فى وجوب القسامة على معنيين، فقوم اعتبروا اللوث فهم يطلبون ما يغلب على الظن، ويكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء، ولم يطلب أحد فى القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البت، وإنما طلبوا شبهة وسموها لطخة؛ لأنه يلطخ المدعى عليه بها، وبهذا قال مالك والليث والشافعى إلا أنهم اختلفوا فى اللوث، فذهب مالك فى رواية ابن القاسم عنه أن اللوث الشاهد العدل، وروى عنه أشهب أنه غير العدل‏.‏

وذهب الشافعى إلى أنه الشاهد العدل أو أن يأتى بينة مقترنة وإن لم يكونوا عدولا‏.‏

قال‏:‏ وكذلك لو دخل بيتًا مع قوم لم يكن معهم غيرهم، أو أن تكون جماعة فى صحراء فيفترقون عن قتيل، أو يوجد قتيل وإلى جنبه رجل معه سكين مخضوبة بالدّم، وليس ثم أثر تتبع ولا قدم إنسان آخر، ولا يقبل الشافعى قول المقتول‏:‏ دمى عند فلان، قال‏:‏ لأن السنة المجتمع عليها أنه لا يعطى أحد بدعواه شيئًا‏.‏

وعند مالك والليث أن القسامة تجب باللوث أو بقول المقتول‏:‏ دمى عند فلان‏.‏

وقد تقدم فى باب من قتل بحجر أو بعصا، وقوم أوجبوا القسامة والدية بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، وهذا قول الثورى والكوفيين، ولا قسامة عندهم إلا فى القتيل يوجد فى المحلة خاصة، قالوا‏:‏ فإذا وجد قتيلاً فى محلة قوم وبه أثر؛ حلف أهل الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شىء وهذا لا سلف لهم فيه‏.‏

وحديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار خلاف قول الكوفيين؛ لأن النبى لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل فى محلتهم، ولم يطالبهم بها بل أداها من عنده، ولو وجبت الدية على أهل المحلة لأوجبها صلى الله عليه وسلم على اليهود، وأما اشتراطهم أن يكون به أثر فليس بشىء؛ لأنه قد يقتل بما لا أثر به‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والعجب من الكوفيين أنهم ألزموا العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، ثم أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمد لا تثبت ببينة ولا إقرار؛ لأن الدعوى التى ادعاها المدعى لو ثبتت البينة لم يلزم ذلك العاقلة فكيف يجوز أن يلزموه بغير بينة والخطأ محيط بهذا القول من كل وجه‏.‏

وذهب مالك والليث والشافعى إلى أن القتيل إذا وجد فى محلة قوم فهو هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارًا ولا غيره؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤخذ أحد بمثل ذلك، وقد قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضى الله يوم القيامة‏.‏

وقال القاسم بن مسعدة‏:‏ قلت للنسائى‏:‏ مالك بالقسامة إلا بلوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه‏؟‏ قال النسائى‏:‏ أنزل مالك العداوة التى كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا كان من السبب الذى حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت القسامة، كانت خيبر دار يهود محضة، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة، وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر فوجد قتيلا قبل الليل، فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود‏.‏

وكذلك قال أحمد‏:‏ إذا كان بين القوم عداوة كما كان بين أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وبين اليهود‏.‏

ووجه قول مالك أن قول المقتول تجب به القسامة، أن الغالب من الإنسان أنه يتخوف عند الموت ويجهد فى التخلص من المظالم، ويرغب فيما عند الله ويحدث توبة ولا يقدم على دعوى القتل ظلمًا فصار أقوى من شهادة الشاهد، وأقوى من قول الشافعى أن الولى يقسم إذا كان بقرب وليه وهو مقتول ومع الرجل سكين؛ لأنه يجوز أن يكون غيره قتله، فضعف هذا اللوث، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه، وهو قول المقتول‏:‏ دمى عند فلان‏.‏

قال ابن أبى زيد‏:‏ وأصل هذا فى قصة بنى إسرائيل حين أحيا الله الذى ضرب بالبقرة، وقال‏:‏ قتلنى فلان، فهذا يدل على قبول قول المقتول‏:‏ دمى عند فلان؛ لأنه كان فى شرع بنى إسرائيل، وسواء كان قبل الموت أو بعده‏.‏

واختلفوا فى العدد الذين يحلفون ويستحقون الدم، فقال مالك‏:‏ لا يقسم فى دم العمد إلا اثنان فصاعدًا ترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينًا وذلك الأمر عندنا، والحجة أن النبى صلى الله عليه وسلم عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعة، فقال‏:‏ ‏(‏أتحلفون وتستحقون‏)‏ وأقل الجماعة اثنان فصاعدًا‏.‏

وقال الليث‏:‏ ما سمعت أحدًا ممن أدركت يقول أنه يقتصر على أقل من ثلاثة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إذا ترك وارثًا استحق الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينًا‏.‏

واحتج له أبو ثور‏:‏ فقال‏:‏ قد جعل الله للأولياء أن يقسموا، فإن لم يكن إلا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلا ابنة وهى مولاته حلفت خمسين يمينًا، وأخذت الكل‏:‏ النصف بالنسب والنصف بالولاء‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وفى قوله‏:‏ ‏(‏تستحقون‏)‏ دليل على ألا يمين لغير مستحق، وعلى ألا يحلف إلا وارث‏.‏

وفى الحديث من الفقه‏:‏ أن يسمع حجة الخصم على الغائب، وفيه أن أهل الذمة إذا منعوا حقا حقا رجعوا حربًا‏.‏

وفيه مقاتلة من منع حقا حتى يؤديه، وفيه أن من صح عنده أمر ولم يحضره أن له أن يحلف عليه؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر، وفيه وجوب رد اليمين على المدعى فى الحقوق‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة أنه من ادعى حقا على آخر ولا بينة له؛ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعى فإن حلف استحق، وإن لم يحلف فلا شىء له، روى هذا عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وهو قول شريح والشعبى والنخعى، وبه قال مالك والشافعى وأبو ثور‏.‏

وذهب الكوفيون أن المدعى عليه إن لم يحلف لزمه الحق ولا ترد اليمين على المدعى، وكان أحمد لا يرى رد اليمين، وحجتهم فى ذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حكم بالبينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، فلما لم يجز نقل حجة المدعى وهى البينة عن الموضع الذى جعلها فيه النبى صلى الله عليه وسلم إلى جهة المدعى عليه كذلك لم يجز نقل حجة المدعى عليه وهى اليمين إلى المدعى؛ لأن قوله اليمين على المدعى عليه إيجاب عليه أن يحلف، فإذا امتنع مما يجب عليه أخذه الحاكم بالحق، هذا قول ابن أبى ليلى وغيره من أهل العلم، واحتج أهل المقالة الأولى بحديث القسامة، وقالوا‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم جعل اليمين فى جهة المدعى بقوله للأنصار‏:‏ ‏(‏تحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ فلما أبوا حولها إلى اليهود ليبرءوا بها، فلما وجدنا فى سنته صلى الله عليه وسلم أن المدعى قد تنقل إليه اليمين فى الدماء وحرمتها أعظم؛ جعلناها عليه فى الحقوق لنأخذ بالأوثق‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والمدعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته، وصار متهمًا، وقويت جهة المدعى؛ لأن الظاهر صار معه، فوجب أن تصير اليمين فى جهته لقوة أمره‏.‏

وقد احتج الشافعى على الكوفيين فقال‏:‏ رد اليمين فى كتاب الله تعالى فى آية اللعان أيضًا، وذلك أن الله جعل اليمين على الزوج القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء وجعل له بيمينه البراءة من حد القذف، وأوجب الحد على الزوجة إن لم تلتعن، فهذه يمين ردت على مدع كانت عليه البينة فى رميه زوجته فكيف ينكر من له فهم وإنصاف رد اليمين على المدعى‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ قد ذكر الله فى كتابه رد اليمين على المدعى الصادق؛ فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏،‏)‏ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏ واحتج أيضًا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 108‏]‏ وقال أهل التفسير‏:‏ يعنى تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء‏.‏

والتشحط الاضطراب فى الدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أترضون نفل خمسين‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ يقال‏:‏ انتفلت من الشىء انتفيت منه فنفل اليهود هو أيمانهم أنهم ما قتلوه وانتفاؤهم عن ذلك‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة، فرواه سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار‏:‏ ‏(‏فوداه النبى صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة‏)‏ ورواه سائر الرواة عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن بشار‏:‏ ‏(‏فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده‏)‏ فما وجه هذا الاختلاف، وإبل الصدقة للفقراء والمساكين، ولا تؤدى فى الديات، فما وجه تأديتها عن اليهود‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن رواية من روى‏:‏ ‏(‏فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده‏)‏ تفسير رواية من روى‏:‏ ‏(‏دفع من إبل الصدقة‏)‏ وذلك أن الرسول لما عرض الحكم فى القسامة على ولاة الدم بأن يحلفوا ويستحقوا الدم من اليمين ثم نفلهم إلى أن تحلف لهم يهود ويبرءوا من المطالبة بالدم‏.‏

قالوا‏:‏ كيف نأخذ أيمان قوم كفار، وتعذر إنفاذ الحكم، خشى صلى الله عليه وسلم أن يبقى فى نفوس الأنصار ما تتقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حين، فرأى صلى الله عليه وسلم من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم ووداه من عنده وتسلف ذلك من إبل الصدقة حتى يؤديها مما أفاء الله عليه من خمس المغنم؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتمع عنده مما يصير له فى سهمانه من الإبل ما يبلغ مائة لإعطائه لها وتفريقها على أهل الحاجة لقوله‏:‏ ‏(‏ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس وهو مردود إليكم‏)‏ فمن روى ‏(‏من إبل الصدقة‏)‏ أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه، والذى روى ‏(‏من عنده‏)‏ علم وجه القصة وباطنها، فلم يذكر إبل الصدقة، وكان فى غرم النبى لها صلحًا عن اليهود وجهان من المصلحة‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه عوض أولياء المقتول دية قتيلهم، فسكن بذلك بعض ما فى نفوسهم وقطع العداوة بينهم وبين اليهود‏.‏

والثانى‏:‏ أنه استألف اليهود بذلك، وكان حريصًا على إيمانهم‏.‏